الكلمات المفتاحية: السينما/ الهوية/ الثقافة/ المجتمع.
منذ اللحظات الأولى لظهورها في العالم العربي، لم تكن السينما مجرد وسيلة للترفيه، بل تحوّلت تدريجيًا إلى مرآة تعكس نبض المجتمعات وتفاصيل تحوّلاتها. ففي بدايات القرن العشرين، بدأت ملامح السينما العربية تتشكل وسط تحديات ثقافية وتقنية، لتصبح لاحقًا وسيلة فنية تساءل الهوية وتوثّق التغيرات الاجتماعية المتسارعة. ورغم البدايات المتواضعة، فإن تلك المرحلة التأسيسية مهّدت الطريق لظهور أعمال شكلت اللبنة الأولى لتاريخ سينمائي طويل، ما زال أثره واضحًا حتى اليوم.
النشأة والبداية: بدأت السينما في العالم العربي من مصر، والتي كانت من أوائل الدول العربية التي دخلت هذا المجال، مما منحها الريادة والشهرة في صناعة السينما. وفي عام 1927، تم إنتاج وعرض أول فيلمين شهيرين هما قبلة في الصحراء وليلى.
ورغم بساطة الإنتاج المحلي، بدأت السينما العربية بالتطور بخطى ثابتة. وكان فيلم وداد، من بطولة أم كلثوم، أول فيلم مصري يُعرض خارج مصر، كما كان أول إنتاج لاستوديو "مصر"، وهي شركة لعبت لاحقًا دورًا مهمًا في تطوير السينما المصرية
في تلك الفترة، كانت الأفلام تُنتج بالأبيض والأسود، ولكن مع منتصف الأربعينيات، بدأ التركيز على تلوين بعض الأفلام القديمة وإنتاج أفلام جديدة ملونة. هذا التحول ساعد في ازدهار السينما المصرية على عدة أصعدة. من ناحية فنية، أدى إدخال الألوان إلى تطوير أساليب التصوير والإخراج، مما جعل الأفلام أكثر جذبًا وإثارة للمشاهدين. من الناحية الاقتصادية، ساعد هذا التحول على زيادة الإيرادات وتحقيق انتشار أكبر في الأسواق المحلية والعربية. أما من الناحية الثقافية، فقد ساهمت السينما المصرية في نقل الصور والمفاهيم الاجتماعية والثقافية التي كانت تؤثر على المجتمع العربي بأسره، مما جعلها مصدر إلهام للعديد من الدول العربية.
"السينما العربية قد تخفت أضواؤها لفترة، لكنها قادرة دائمًا على العودة والتألق من جديد إذا وجدت القصة الجيدة والإبداع الحقيقي."
دعم الحكومة للسينما:
لم تكن الحكومات العربية في بدايات ظهور السينما توليها أهمية تُذكر، إذ كانت تُرى أنها تفتقر إلى التأثير الفعّال في المجتمع. ولكن مع تزايد نشاطها وتأثيرها اجتماعيًا ومحليًا، بدأ تأسيس دور السينما الخاصة وإنتاج أفلام محلية تنافش الواقع اليومي وعدم الاعتماد على الأفلام الأجنبية المستوردة ومن بين أهم الدول التي استخدمت السينما ودعمتها هي
- مصر
- الجزائر
- العراق
- سوريا
مصر: كانت مصر أول دولة عربية تهتم فعليًا بالسينما، ومع أنها بدأت كمجال خاص، إلا أن الحكومة المصرية بعد ثورة 1952 بدأت تدعم السينما بشكل مباشر. أُنشئت "المؤسسة العامة للسينما" عام 1963 بهدف إنتاج أفلام وطنية تخدم التوجهات السياسية والاجتماعية للدولة. أصبحت السينما وسيلة لنشر الأفكار القومية والتثقيف العام، وتم دعم أسماء كبيرة في عالم الإخراج مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف
الجزائر: بعد استقلال الجزائر عام 1962، لعبت الدولة دورًا كبيرًا في دعم السينما، واعتبرتها أداة لبناء الهوية الوطنية والتخلص من إرث الاستعمار الثقافي الفرنسي. أنشأت الحكومة المركز الوطني للسينما (CNCA) وموّلت إنتاج أفلام وطنية مثل "وقائع سنين الجمر" (1975) الذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان.
العراق: رغم بدايات متواضعة، شهدت السينما العراقية تطورًا ملحوظًا بعد قيام الجمهورية عام 1958. أسست الحكومة دائرة السينما والمسرح، وبدأت بدعم إنتاج أفلام تهدف إلى تعزيز الإنجازات الوطنية والترويج للمبادئ الاشتراكية. كما تم إرسال طلاب وفنيين للتدرب في الخارج.
سورية: بدأ الاهتمام الحكومي بالسينما في سوريا يتبلور بعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم عام 1963. في هذا السياق، أُنشئت "المؤسسة العامة للسينما" في العام نفسه، باعتبارها الجهة الرسمية المسؤولة عن الإنتاج السينمائي. وقد مثّل هذا التحول نقطة فاصلة في مسار السينما السورية، إذ انتقل الإنتاج من الطابع التجاري الخفيف إلى الأعمال ذات البعد الاجتماعي والسياسي.
تبنّت الدولة مشاريع سينمائية تُعبر عن رؤيتها القومية والاشتراكية، وموّلت إنتاج أفلام تناولت موضوعات التحرر الوطني والصراع الطبقي. من أبرز هذه الأعمال فيلم "الفهد" (1972) للمخرج نبيل المالح، الذي يُعد أول فيلم روائي طويل من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وتناول قضايا التمرد الشعبي ضد الإقطاع والظلم الاجتماعي.
كذلك، كان للمخرج محمد ملص دور بارز في ترسيخ السينما السورية ذات الطابع الجاد، من خلال أفلامه التي مزجت بين السيرة الذاتية والهمّ الجمعي، مثل فيلم "أحلام المدينة" (1984)، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما، وصوّر التناقضات الاجتماعية والسياسية في المجتمع السوري بعد الاستقلال.
رغم بعض القيود الرقابية، إلا أن الدعم الحكومي للسينما أتاح للعديد من المخرجين السوريين فرصة إنتاج أفلام تعبر عن رؤى فنية وفكرية عميقة، مما جعل المؤسسة العامة للسينما نموذجًا لسياسات الإنتاج السينمائي الحكومي في العالم العربي.
وفي الختام: يمكن القول إن السينما العربية لم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت ولا تزال أداة مهمّة لفهم المجتمعات والتعبير عن قضاياها. فمنذ بداياتها المتواضعة، استطاعت أن تواكب التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، وساهمت في تشكيل الوعي العام ونقل صور الحياة اليومية بكل تفاصيلها. ومع دعم بعض الحكومات وتبنّيها للسينما كوسيلة للتثقيف والتعبير الوطني، ازدادت قدرتها على التأثير والانتشار.
ورغم التحديات التي تواجهها اليوم، تبقى السينما العربية تملك الإمكانيات للعودة والتجدد متى توفّرت لها البيئة المناسبة والدعم الحقيقي، كما سنوضح بالجزء الثاني من هذه السلسلة بالحديث عن أهم الأعمال التي تصدرت المشهد السينمائي بهذه الفترة وأهم المخرجين الذين عملوا على تطوير مجال السينما بالعالم العربي.
المصادر
- غادة عبد (1 يناير 2020). الإعلام التقليدي والإعلام البديل. Horus Publish. ISBN:978-977-6759-40-4.
- السينما المصرية: التأصيل والانتشار، 1935-1952. المجلس الأعلى للثقافة، لجنة السينما، 2009. ISBN:978-977-479-120-8.
- سامح فتحي، "تاريخ السينما المصرية"، 2010
- رشيد بن علال، "السينما الجزائرية: بين الطموح والواقع"، 2004
- عبد الأمير السعدي، "تاريخ السينما العراقية"، 2005
- المؤسسة العامة للسينما – الموقع الرسمي، http://www.syriamovie.org
- Boukhari, Kais. "Syrian Cinema: State, Politics, and Film." In Arab Cinema: History and Cultural Identity, edited by Viola Shafik, AUC Press, 2001
- Alkassim, Samirah & Andary, Nezar. The Cinema of Muhammad Malas: Visions of a Syrian Auteur. Palgrave Macmillan, 2018.
الكلمات المفتاحية
السينما العربية، تاريخ السينما العربية، السينما المصرية، السينما السورية، الهوية الثقافية العربية، تطور السينما في العالم العربي، صناعة الأفلام العربية، دعم الحكومات للسينما، المخرجون العرب، الثقافة والمجتمع في السينما
 
        
        